كلمة المهندس أمين بن حسن الناصر في مؤتمر أسبوع سيرا

أمين حسن الناصر، الرئيس وكبير الإداريين التنفيذيين
شكرًا دان، أسعد الله صباحكم بكل خير أيها السيدات والسادة.
يسعدني أن أكون معكم في مدينة هيوستن للمشاركة في مؤتمر أسبوع سيرا مرة أخرى،
بيد أن الأجواء في نسخة هذا العام مختلفة وتكتسب أهمية خاصة،
إذ نشعر جميعا بأن رياح التاريخ وحقائقه تهب وتجري في صالح أشرعة صناعة الطاقة.
وسأبين في كلمتي هذا الصباح السبب وراء ذلك.
لقد شعرت وغيري آخرين في قطاع الطاقة على مدى أكثر من عقد من الزمان بمسئولية متزايدة تجاه أهمية تسليط الضوء على الثغرات الكبيرة التي تشوب خطة التحول الحالية في مجال الطاقة.
وسبب ذلك هو الالتزام العميق تجاه المستهلكين حول العالم والالتزام تجاه مستقبل الطاقة والحرص الشديد على خفض الانبعاثات وتحقيق الاستدامة.
ولكنني، كحال العديد منكم في هذه القاعة، فأنا في صميمي مهندس،
وأحرص على تقييم الخطط بعين المهندس من خلال معطياتها ونتائجها، أو "تحقيق أفضل قيمة مقابل المال" كما يُقال.
فقد باتت المعطيات واضحة مع بلوغ حجم الإنفاق العالمي على التحول ما يقرب من 10 تريليونات دولار، وبذل جهود على مدى عقدين من الزمن.
وجرى الترويج للنتائج الموعودة بكل ثقة،
وقيل إنه سيكون هناك مجموعة كاملة من التقنيات الأساسية بأسعار تنافسية ومعقولة لتحقيق التحول.
وإنه من خلال التخلي السريع عن الطاقة التقليدية وجعلها نسيًا منسيًا، فإننا سنكون قاب قوسين أو أدنى من إيجاد واقع مثالي تستخدم فيه الطاقة البديلة الأرخص والأكثر أمانًا واستدامة.
وسيكون هذا الواقع منصفًا للجميع بفضل إتاحة الفرصة لهم للاستفادة به من خلال التعاون العالمي.
كثير منا أدرك أن الوفاء بهذه الوعود أمر مستحيل.
ولكن في ظل غياب أي تمثيل للقطاع في دوائر صنع القرار، فقد استغرق الأمر عقدًا من الزمان حتى تكشف الحقائق المرّة والمغالطات التي هيمنت على النقاشات بتأثير التفكير الجماعي الخالي من النظرة النقدية.
واحتاج الأمر كذلك إلى الشعور ببعض الواقع المر، بما في ذلك على سبيل المثال تكلفة الطاقة على المستهلكين.
فإلى جانب العشرة تريليونات دولار التي أنفقها العالم في العقدين الماضيين، تشير التقديرات إلى الحاجة إلى ضخ استثمارات غير معقولة بقيمة تتراوح بين 6-8 تريليونات دولار سنويًا لتمويل التحرك العالمي لمكافحة التغير المناخي.
8 تريليونات دولار رقم ضخم جدا إذا قارناه بحجم اقتصادات الدول الكبرى سيكون ثالث أكبر اقتصاد على مستوى العالم!
ومع ذلك، لو حققت مصادر الطاقة البديلة النجاح وكانت جاهزة للاستخدام على نطاق واسع، لكان الذين تعصبوا لها ودفعوا بقوة وسرعة تجاه خفض استخدام مصادر الطاقة التقليدية موضع تقدير وغبطة من العالم.
إلا أن ذلك لم يتحقق وكان الواقع بمثابة صفعة قوية ودرس لمن كانوا يظنون أن أمن الطاقة وإتاحتها بأسعار معقولة للمستهلكين هما جانبان يمكن تجاهلهما.
وهناك حقائق مهمة ومؤثرة منها على سبيل المثال، أن أوربا تدفع في الوقت الحالي نحو ضعف تكلفة الكهرباء مقارنة بما كانت عليه قبل خمس سنوات ، وبين 3 إلى 4 أضعاف ما تدفعه الولايات المتحدة والصين.
وبذلك بدأت بعض الدول تفقد قاعدتها الصناعية وتخسر الوظائف بسبب ارتفاع أسعار الطاقة واضطرار الشركات لنقل مقراتها للمحافظة على قدرتها التنافسية، أو الإغلاق تمامًا.
وثمة حقيقة أخرى وهي أن أغنى مليار شخص في العالم يستهلكون 40% من الطاقة العالمية.
وأن المجتمعات الأكثر فقرًا والبالغ عددهم 7 مليارات نسمة ويشكلون الشريحة الأكبر من سكان الأرض سيكونون وراء معظم الزيادة في نمو الطلب المستقبلي على الطاقة مع سعيهم لتحسين جودة حياتهم وتحقيق التقدم والرخاء.
ولكن تلك الشريحة الأكبر لم تحصل إلا على 15% من حجم الاستثمارات التي أنفقت لتحقيق التحول في مجال الطاقة ، فيما انخفضت لديها مستويات نقل التقنية وبناء القدرات انخفاضًا كبيرًا.
أيضا هناك وهم شائع بأن التقنيات المهمة للتحول في مجال الطاقة ذات تكاليف تنافسية ويجري العمل على اعتمادها واستخدامها ونشرها بوتيرة سريعة.
لنأخذ الهيدروجين الأخضر على سبيل المثال:
كان العديد يطمحون إلى الوصول بالتكلفة إلى 1 دولار للكيلوغرام بحلول عام 2030.
إلا أن التكاليف الحالية تتراوح بين 4 إلى 12 دولارًا لكل كيلوغرام؛ إذا قارناه بأسعار النفط فالهيدروجين يعادل 200 إلى 600 دولار لكل مكافئ برميل نفطي!
مثال آخر إذا نظرنا إلى تقنيات تخزين الطاقة على المدى البعيد للغاية، حيث لا يزال معظمها في المراحل الأولية وبأسعار مكلفة للغاية، وتتراوح فترة تحقيق العائد على الاستثمار فيها من 15 إلى 40 عامًا.
لذا، فإن الاعتماد أكثر من اللازم على مصادر الطاقة المتجددة وهي ذات طبيعة غير منتظمة، دون توفير ما يكفي من مصادر الطاقة الاحتياطية على نطاق الشبكة، وخطة تخزين بعيدة المدى، يجعل تحقيق الموثوقية في توفير الإمدادات على مدار الساعة تحديًا صعبًا.
ويجب أن نأخذ في الاعتبار أن معدل استهلاك الكهرباء العالمي سيتضاعف بحلول عام 2050.
والسبب في ذلك ارتفاع الطلب على أجهزة تكييف الهواء، والتحول إلى استخدام الكهرباء في قطاع النقل والسيارات، ووصول الكهرباء إلى مجتمعات ومناطق لم تصلها من قبل، إلى جانب النمو المضطرد في أعداد وأحجام مراكز الذكاء الاصطناعي والبيانات، التي تستهلك جزءًا كبيرًا من هذا النمو.
أما في قطاع النقل الثقيل والصناعات الثقيلة، التي تستهلك مجتمعة نحو 60% من إنتاج النفط في العالم، فإن البدائل لم تحقق أي أثر يذكر.
وحتى مع انتشار المركبات الكهربائية، فإننا نرى توجها يتثمل في رفض متزايد من المستهلكين الذين يفضلون تنوع الخيارات وانخفاض الأسعار على الالتزام بالسياسات الموجهة.
وهذا التوجه يدفع بشركات صناعة السيارات إلى إعادة تركيز جهودها على السيارات الهجينة منخفضة التكلفة ومحركات الاحتراق الداخلي الأكثر كفاءة.
لذا، فإذا كان معدل انتشار السيارات الكهربائية في العالم لا يزال 4% فقط ، وإذا كانت طاقة الرياح والطاقة الشمسية مجتمعة لا تتجاوز 4% من إمدادات الطاقة العالمية ، فإن ذلك يعني أننا لم نقطع سوى 4 أميال في رحلة طولها 100 ميل!
وفي الواقع، فإن أكبر وهم يخص التحول في مجال الطاقة هو أن الطاقة التقليدية يمكن استبدالها بالكامل بين ليلة وضحاها.
وكانت آخر مرة حدث فيها ذلك بالفعل قبل نحو 150 سنة! عندما كان زيت الحوت يمثل مصدرًا قويًا من مصادر الطاقة ثم انهار الطلب فجأة.
ورغم كثرة الحديث عن التغيير، لا تزال المواد الهيدروكربونية توفر أكثر من 80% من الطاقة الأولية في الولايات المتحدة، ونحو 90% في الصين، بل وأكثر من 70% في الاتحاد الأوروبي.
وإذ قارنا بالأرقام المطلقة، استهلاك العالم اليوم من المواد الهيدروكربونية بما كان يستهلكه قبل ثلاثة عقود نجد أن العالم اليوم يستهلك كمية أكبر بنحو 100 مليون مكافئ برميل نفط في اليوم
وحتى مصادر الطاقة من الحطب والكتلة الحيوية التقليدية لم تفقد أهميتها كثيرًا على مدى 200 عام رغم أن الناس اعتقدوا حينها أن الفحم ثم النفط والغاز سيحلان محله.
لذا، لا أعير اهتماما للتوقعات التي تدعي أن هذا العام يصل ذروة الطلب على هذا المصدر أو ذاك من الطاقة.
وهذا مجرد تاريخ يعيد نفسه: فمصادر الطاقة الجديدة لا تحل محل المصادر الحالية، بل تضيف إلى المزيج العالمي من الطاقة.
ولهذا السبب فإن الاستراتيجية الحالية للتحول المبكر إلى بدائل غير ناضجة هي استراتيجية تدمر ذاتها.
ولا تستطيع المصادر الجديدة حتى مواكبة النمو في الطلب، في حين أن المصادر الثابتة اللازمة لسد هذه الفجوة يتم تهميشها والتخلص منها بطرق غير عقلانية.
إنه ليس مسار سريع إلى يوتوبيا المدينة الفاضلة بل مسار سريع إلى ديستوبيا المستقبل البائس.
وباختصار، فبعد عقدين من الزمان وإنفاق 10 تريليونات دولار، لم يحقق العالم تقدمًا يُذكر، بل استمر في استهلاك المزيد من الفحم.
في الواقع، احتمال نجاح الخطة الحالية في حكم المستحيل، ما يعني أن موجة من السخط الشعبي وتداعياتها - فيما يتعلق بواقعية تحول الطاقة- في طريقها لتضرب الدول والشركات والمستهلكين على حد سواء.
ولكن في عالم يتجه نحو إضافة المزيد من مصادر الطاقة لا استبدالها، هناك حاجة ماسة إلى نموذج جديد للطاقة في المستقبل، يستند إلى ثلاثة مبادئ أساسية:
أولاً، يجب أن تضطلع جميع مصادر الطاقة بدور متنامي في تلبية الطلب المتزايد على الطاقة بطريقة متوازنة ومتكاملة.
وهذا يتضمن بالتأكيد مصادر جديدة وبديلة للطاقة.
إلا أنها ستكمل الطاقة التقليدية، ولن تحل محلها بأي شكل مؤثر.
ونحن بحاجة إلى استثمارات في جميع المصادر، ونحن في أرامكو نقوم بدورنا حيث استثمرنا العام الماضي فقط 50 مليار دولار في عديد من مشاريع الطاقة التقليدية والمصادر الجديدة معًا. وعلى سبيل المثال نستهدف في أرامكو استثمار يبلغ قدره 12 جيجاوات من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بحلول 2030. وهذه الخطوات يجب أن تكون مدعومة بإجراءات لتحرير السوق، وحوافز أكبر للمؤسسات المالية لتوفير تمويل غير متحيز.
ثانيًا، يجب أن يخدم النموذج بصورة حقيقية احتياجات الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، كما وُعِد في الأصل، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتقنية.
ثالثًا، وهو أمر مهم للغاية، لا بد من التركيز على الهدف وهو إحراز نتائج حقيقية.
واسمحوا لي أن أكون واضحا تماما: ما ذكرته لا يعني التراجع عن طموحاتنا في مجال المناخ العالمي.
يجب أن يحظى الحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بأعلى أولوية.
وهذا يعني إعطاء الأولوية للتقنيات التي تعزز الكفاءة، وتخفض من استهلاك الطاقة، وتحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري من الطاقة التقليدية.
ولقد بات من الواضح أن الذكاء الاصطناعي من العوامل التي تغير قواعد اللعبة.
ولكن مستقبل الطاقة لا يُعنى بالاستدامة فحسب.
بل يجب أن يكون لأمن الطاقة ومعقولية أسعارها نفس القدر من الاهتمام أيضًا.
مع عمل جميع مصادر الطاقة بشكل متناغم وكأنها فريق واحد، يستهدف الوصول إلى نتائج حقيقية تصب في مصلحة الجميع.
السيدات والسادة، وُعد العالم بالعديد من الأمور في خطة التحول الحالية.
كان الأمر أشبه بحلم بعيد المنال في مجال الطاقة كحلم العثور على مدينة الذهب المفقودة "إلدورادو"، في رحلة كانت محكومة بالفشل. وهو ما لا نرغبه لخطة تحول الطاقة الحالية، وفي الوقت نفسه يجب ألا ندعم الفشل.
إننا أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف مفهوم التحول وتشكيل مستقبل الطاقة.
لذا، دعونا نُعرف التحول بأنه هدف يحتاجه العالم حقًا ويستطيع تحمل تكلفته وتحقيقه بالفعل دون إغفال الاستحقاقات المناخية.
وليكن هذا النموذج للطاقة الجديدة، جنبًا إلى جنب مع الخبرات والتجارب العملية التي تتمتع بها صناعتنا، القوة الدافعة التي تأخذنا إلى عصر جديد من الطاقة الوفيرة المستدامة، وبتكلفة ميسورة للجميع.
شكرًا لكم.
الاستفسارات الإعلامية
جميع استفسارات وسائل الإعلام يتم التعامل معها من قبل إدارة الإعلام والتواصل التنفيذي في أرامكو - قسم العلاقات الإعلامية. الظهران - المملكة العربية السعودية